أحوال عدم إجابة السائل

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛

يتساءل الناس في أحيانٍ كثيرة عن سبب امتناع بعض العلماء عن إجابة بعض السائلين، بل لسان حال بعضهم -إن لم يكن مقالهم- أنَّهم آثمون بترك الجواب مع علمهم به.

فهل حقّاً يلزم العالم أن يجيب كلَّ من سأله، وأيَّاً كان سؤاله وغرضه؟

وللجواب عن هذا السؤال أقول -وبالله التوفيق-:

الأصل أنَّه يجب على العالم أو المفتي أن يجيب السائل عن سؤاله؛ لأنه لم يَسأل إلاَّ استرشاداً وبحثاً عن أمر الله سبحانه ليعمل به. وقد توعَّد الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من سُئِل عن علم فكتمه بالعذاب الشديد، فروى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار )).

لكن هناك أحوال استثناها أهل العلم، بيَّنوا أنَّ الأولى فيها -بل الواجب أحياناً- الإعراض عن السائل وعدم جوابه، ومن هذه الأحوال:

أولاً: أن يَغلب على ظنِّ العالم قصور عقل السائل وإدراكه عن فهم الجواب، ممَّا قد يعرِّضه للوقوع في فتنة إنكار الشرع ورده. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلاَّ كان لبعضهم فتنة )). رواه مسلم في مقدمة صحيحه.

ثانياً: ومنها: أن يغلب على ظنِّ العالم أن السائل سيطبق الجواب بطريقة خاطئة، أو ربما ترتَّب على جوابه منكر أعظم من ترك جوابه. قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه البخاري: (( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من علم، أمَّا أحدهما فقد حدَّثكم به، وأمَّا الآخر، فلو حدَّثكم به لقُطِع مني هذا الحلقوم )).

ثالثاً: ومنها: أن يغلب على ظنِّ العالم أنَّ السائل لم يسأل ليعرف الحكم ويعمل به، وإنَّما يسأل تفكهاً، أو امتحاناً للعالم ليصنِّفه أو نحو ذلك من الأغراض. قال رجل لابن شبرمة: (( أسألك؟ قال: إنْ كانت مسألتك لا تُضحك الجليسَ، ولا تُزري بالمسئول، فسَلْ )). وقال إياس بن معاوية: (( من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يَسأل عنها، ولا للمجيب أن يجيب عنها )).

رابعاً: ومنها: أن يغلب على ظنِّ العالم أن غرض السائل التشهي والاختيار من أقوال العلماء، فإنْ وافق قول العالم هواه أخذ به، وإلاَّ ردَّه ولم يُبال. كما قال الله سبحانه: ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

قال ابن تيمية: (( وكذلك لو كان المتحاكِم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيَّرون بين القبول من الكتاب والسنة، وبين ترك ذلك، لم يَجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدِّثون المعلِنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: من لا يكون قصدُه في استفتائه وحكومته الحقَّ، بل غرضه مَن يوافقه على هواه، كائناً من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلاً، فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإنَّ اللّه إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا للّه ورسوله )).

ورحم الله الإمام سحنوناً، فقد بعث إليه الأمير مرَّةً يسأله عن مسألة فلم يُجبه، فقيل له في ذلك، فقال: (( أفأجيب من يريد أن يتفكَّهَ، يريد أن يأخذ قولي وقول غيري، ولو كان شيئاً يُقصَد به الدين لأجبته )) .

خامساً: أن يعلم العالم من حال السائل أنَّ غير سؤاله أنفع له، وأنَّ الواجب عليه الاشتغال بما سواه، فيمتنع من جوابه؛ ليصرفه إلى غيره، وليشعره بعدم رضاه عن بحثه في هذا الموضوع الذي لا يعنيه. قال ابن عباس رضي الله عنهما لمولاه عكرمة: (( انطلق فأفْتِ الناس، فمَن سألك عمَّا يعنيه فأَفْتِه، ومن سألك عمَّا لا يعنيه فلا تُفتِه؛ فإنَّك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس )).

فهذه خمسة أسباب تدعو العالم إلى ترك جواب السائل مع علمه بالجواب، يمكن اختصارها في سبب واحد، وهو أنَّ المطلوب من العالم هداية السائل إلى ما ينفعه، وقد يكون ذلك بالإعراض عن سؤاله.